508 صفحة ينداح السرد فيها مفترعا المساحات المعتمة ، حيث الموت بداية deads of bagdadلوجود آخر ، والموتى يصوغون شكل الحياة كما تبدو من الضفة الأخرى .

“أموات بغداد” للكاتب العراقي جمال حسين علي ، رواية تمنح لقارئها فرصة ما للغرق في عالم الموت ، كائناته ولحظاته ، خرافاته وأساطيره ، وفضاء مزدحم بانزياحات مملكة الموتى باتجاه كائن فارقته حبيبته في بواكير العشق الذي جمعه بها ، فاجعته بموت حبيبته نقلته إلى سبر أغوار “علم الموت” وتحديدا علم التشريح.

يتمركز البروفسور ، الذي لم يذكر اسمه في سهوب الرواية ، في قلب الحدث وبؤرة السرد ، هو عبقري استثنائي أنجز ثلاث رسائل دكتوراه مختلفة في الرياضيات والفيزياء والتشريح بظرف خمسة عشر عاما ، وبعد 25 عاما أفناها في ردهات المكتبات والمختبرات والمعامل بموسكو ، يتسلل الى بلده العراق في نيسان 2003 ، ليجد نفسه في عراق آخر يشبه عراق العديد من المراحل ، عراق مشبع بالموت ومزالق الفناء.

هنا العراق هنا بغداد ، هنا الموت في كل الأقبية والزوايا ، في كل الأعماق وعلى راحة كل الامتدادات ، على صفحات الأنهار وزرقة السماء ، رفقة صراخ النهار وهمس الليل ، هنا الموت بكل الكيفيات ولكل الأسباب معقولها ومختلها ، يستقر العالم والبروفسور الموسوعي المعرفة بجوف مشرحة بغداد الكبرى كزبال بمحض إرادته ، ليبق على اتصاله الأثير بعالم الأموات ، ويواصل الحفر والبحث عن سر الخلود وكروموسومات الموت .

في مشرحة بغداد تنهال الجثث والأشلاء من كل الاتجاهات والأحياء والشوارع ، آلاف من البشر من مختلف الأعمار يدخلونها أجسادا ساكنة تختصر فلسفة المدينة الرائجة ووجه العراق المحطم والممزق بأنصال التاريخ والجغرافيا ونهم السيطرة وابتلاع المقدرات.

داخل مجمع الطب العدلي ، يكرس وقته وجهده للوصول إلى فتح علمي يخلص البلد من شر أبنائه ، فالطغاة والمحتلون إنما مارسوا على العراقيين شتى صنوف التعذيب بمساندة عراقيين آخرين ، فجوهر المأساة جيني كما يراه ، وثمة كروموسومات وتراكيب جينية تؤلف ميول الانسان الشريرة التي وصلت إلى حد تفجير الأسواق والمساجد بالعمليات الانتحارية والسيارات المفخخة ، واغتصاب نزيلات مستشفى الأمراض النفسية ، وجز أعناق بالجملة وبدم بارد ، لكل ذلك سبب متجذر في عمق تاريخ السلالات البشرية ، يبدأ من تكون أول العشائر الجينية ولا ينتهي بوجوده ، ويمتد أفقيا بحيث لا يستثنى منه احد حتى هو نفسه العالم والبروفسور الذي ترك مباهج الأمجاد العلمية في أصقاع العالم ليعود إلى وطنه الذي يصهل الموت بكل إرجائه.

الحل يكمن في تخليق كائن بشري بخارطة جينية جديدة ، و بدء العمل على “برمجة الحياة لتحضير جديد للخميرة التي تُعدّ عجينة البلاد” (ص407) ، للحصول على “إنسان كلّي سليم” شبيه بآدم الكوني المركب من كيمياء الحواس والأعضاء والأماكن. (ص408) ، إنها إعادة تشكيل لسلوك الانسان ووجوده من اصغر وحداته تكونه البيولوجي “الكروموسوم”.

تمزج الرواية بين قطعيات العلم وتهويمات الأسطورة ، تحليق الشعر ومعطيات البحث والتجريب ، صفحات كاملة تجمع بين شعرية العالم الفيزياوي وتشريحية الشاعر السردي كما يقول محمد خضير، على أن لغة الشعر قد يتنكب بها القارئ لتداخلها وغرابة تراكيبها وسريالية مدلولاتها حتى كأنها خليط من حقائق الحياة وخرافية الموت.

يبدو الأحياء في الرواية ككائنات مسطحة منبتة عن أصلها ، بينما يقوم الأموات في بنية الرواية بدور الأحياء ، ووحدهم الأموات يسترعون انتباه السارد ، في حين لا يقول عن الأحياء سوى ما تستدعيه ضرورة السرد فقط ، مقابل أجزاء واسعة تصف الموتى وأحوالهم ، ليكون الجزء المسمى “حوار الليلة العابسة” هو ذروة تماهي البروفيسور مع أمواته ، بإيراد حوار يدور بين زوجين ميتين قتلا في وقت واحد بسبب واحد ولكن في مكانين مختلفين.