في ليلة من ليالي يوليو القائظة جلست بسكون على صخرة تجلدها أمواج شاطئ “صيرة” ، أرسلت بصري إلى الأفق المظلم للبحر غير آبه للقلعة الرابضة على الجبل كترس بيزنطي على مسافة أمتار ، فهذه مدينة “عدن ” وانا القادم من بيئة حيكت من الجبال لا يدهشني سوى صفحة الماء الممتدة من حافة الصخرة الى ما لا نهاية .

على مشهد ضوء البرق يلمع في السماء منعكسا على مرآة خليج عدن ، تذكرت الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي خذلت عدن حلمه الشعري حين جاءها بحثا عن مكنونها الأسطوري ، لكنه لم يلبث أن كتب لأهله أن عدن ليست سوى ” فرن من الجير” ، قلت في نفسي : أنا أيضا أتيت للتو من “الشيخ عثمان ” ووجدتها كباقي المدن ، مدينة مزدحمة بالبشر والاسمنت والباعة ، متخلية عن الحضور الأسطوري الآسر الذي قرأته في رواية “الملكة المغدورة ” لحبيب عبدالرب سروري .استشهد ادوارد سعيد في كتاب “الاستشراق ” بمآثر رامبو كمثال على صورة الشرق المؤطرة بالأسطورة في المخيلة الغربية .

بالتأكيد لم يخدعني سروري ولا ملكته المغدورة ، كما أنه لم يمنح رامبو شعورا زائفا بجنة اسمها عدن وبأثر رجعي ، هو فقط كتب عن عدن وعن الشيخ عثمان مستخلصا ذاكرة المكان من تفاصيله المادية ( الحجر والبشر ، الشوارع والأبنية وشواطئ البحر ، ووميض البرق في عتمة خليج عدن ) وعلاقات الوجود بين تلك التفاصيل ، فأعطى للعلاقات مواجيدها ، وتأنسنت الأشياء ، وتشيؤ الانسان في لحظات سقوطه ، انه لون من الاستقراء غير الآلي والمتأتي من التعايش و التبادل الشعوري بين الانسان والمكان ، فتغدو معه الجمادات مستبطنة لوجدانياتنا.

وكما يمكن لــ “رامبو” استحضار روح شارلفيل مدينة ميلاده وطفولته ، يستحضر سروري روح عدن مدينة طفولته وشبابه ، “عدن” اسم يتلازم في لاشعوري مع اسم الروائي حبيب سروري والشاعر محمد حسين هيثم، لأسباب أعرف بعضها واجهل بعضها الآخر ، وكلاهما بطريقة ما شكل الوجه الشعري لعدن في مقارباتي الذاتية الشعورية للمدينة ، أتخيلني وأنا أطوف أرجاءها سألتقي بجعفر وابتهال وعدنان وناجي ، وربما تفاجئني جدات شارع النصر بنظاراتهن السميكة ، أو شخصيات أخرى خرجت من العالم الروائي لسروري ، أما محمد حسين هيثم بوجهه الوديع الذي غطى واجهات الصحف عندما مات ، فهو يتراءى لي في ليل المدينة ، وأجدني أتلمس أسماء الشوارع والأحياء علي سأعثر على بيت لعبدالعليم أو حتى ضريحه ، أو بقية منه يحمل اسمه.
على هاجس ظهور عبدالعليم أضيء شاشة هاتفي النقال ، تجاوزت الساعة الثالثة صباحا ، ألملم جسدي من فوق الصخرة الشاطئية ، أغادر وكلمات محمد حسين هيثم تتزاحم في خاطري :

مات عبد العليم
وعبد العليم إذا مات
في أي وقت
يموت بحرفنةٍ
ويموت كما يحلم الموت أو يشتهي الميتون
يموت كثيراً
كثيراً
يفيض من الموت
يمتد موتاً
من المهد شرقاً
إلى الغرب من يومه المرتقب