“الكذب أنسب بكثير من الشك ، كما أنه أنفع من الحب ، وأبقى من الحقائق” هذا ما قاله الطاغية الايقونة “الجنرال ” أو “البطريرك” في خريفه الاخير كخلاصة مئتي عام من السلطة المطلقة ، الذي تمدد في سهوب الرواية كما تمدد في الوطن والزمن ، ديكتاتورا بلغت سلطته من القوة بحيث سأل ذات يوم “كم الساعة الان ؟” فأجابوه “الساعة الان كما تريد سيدي الجنرال ” ، والى درجة أنه “كان يكفي أن يشير ببنانه الى الاشجار التي ينبعي أن تثمر والحيوانات التي ينبغي أن تكبر ، والرجال الذين ينبغي ان ينجحوا ، لقد أمر بإلغاء المطر من الاماكن التي يعيق فيها المحصول ، لينزل في الاراضي الجافة ” .

“خريف البطريرك” تحكي بطريقة غير متسلسلة قصة حاكم ربما لا يفهم أبدا إن كان في الكون بلاد أخرى غير بلاده ، وجاء الى السلطة بمحض الصدفة وصار سيدها من حيث كانت السلطة سيدة عليه .
ونفس ماركيز فيها عير نفسه في (مائة عام من العزلة) أو (الحب في زمن الكوليرا) فزمن البطريرك – وهو ذاته زمن احداث الرواية – هو زمن أربعة عشر جنرالا ، وزمن كل الطغاة ، إنها رواية وعرة ترسم حقبة بملامح هلامية تائهة ، تولد وتتشكل وتتبخر في الآن نفسه ، ومعاناة البشر الواقعين تحت نير نزوات الطاغية وحالات فورانه واحجامه يقابلها معاناة القارىء في تجميع شتات الرواية وتداخلاتها ومفاجئاتها.

في لغة الرواية الاصلية تطول بعض الجمل ، فتشغل الجملة الواحدة عدة صفحات بلا نقاط ولا فواصل ولا علامات ترقيم ، يتغير فيها السارد مرات عديدة بلا مقدمات وبلا قرائن واضحة تكشف هوية السارد أو موقعه من الحدث.

البنية السردية في رواية (خريف البطريرك) اتسمت بالتفكك والتشظي والدوران والتآكل والتنامي ، ودفة السرد تنتقل من سارد لآخر باستمرار ، أحيانا في سطر واحد ، والتأرجح يطبع الأحداث بالبطء ثم الاحتدام والتسارع المفاجىء .

“عبث ماركيز بالزمن ” يرمز الى عبث سلطة الطاغية التي جردت التاريخ من دلائله ، والوقت من اتساق حركته ، وكما يقول محمد علي اليوسفي مترجم الرواية فــ “خريف البطريرك ” رواية مفزعة يتجاوز بها ماركيز حدود أمريكا اللاتينية ، أنها تعج بأغاني الشاطىء الكولمبي وألحانه ، حيواناته وأعشابه ، طرائفه ومآسيه ، حقائق دموية ، سحر وتعاويذ ومآدب من لحم بشري وبحر يباع بأجزاء مرقمة .